الخميس، 24 ديسمبر 2009

مفهوم التكوين في اعمال بشير مهدي - حامد الهيتي






انه هنا .. هناك .. قابع بين الآرائك والسماوات الفسيحة الملونة .. والشراشف البيضاء النظيفة .. ومبحر في التهاويم .. لا أظن ان احدا تعرف عليه دون ان يمنحه ذلك الحب الآسر .. انه ( بشير مهدي عباس ) الكائن الأليف مثل طائر السنونو .. الصاخب .. الحاد المزاج مثل موجة مستوحدة عاتية .. وحين تراه لأول وهلة تشعر بانك قد تعرفت عليه منذ عشرات السنين كيف لنا ان ننسى الوجه العراقي الأسمر والعينين الحادتين كعيني نسر .. وتلك الأبتسامة والخطوط النازلة على محياه .


هنا اقول : ينبغي ان نفهم الشياء من خلال قدرتها على التأثير في الأخرين سلبا او ايجابا .. و (بشير) الفنان العراقي المغترب في ايطاليا منذ عشرين سنة يصرخ ملء صوت مبحوح .. ولكنه متفرد في النقاء والصدق : نحن لا نرفض محاولات التجديد في الفن عموما .. والفن التشكيلي بوجه خاص اذا كانت تنطوي على تجربة تطرح دلالاتها بالتأثير واذا وجدت تبريرا لسلوكها فنيا .. ومن هنا فان (بشير) الفنان (الكلاسيكي) المستحدث لمواضيع اعماله المتجددة ابدا ، يفهم لغة واحدة فقط هي اقرب الى ضرورة امتلاك الوعي لدى الفنان .


وحينما يجيء فنان ما ويضع وجهه امام الأعين الذكية وامام الحواس الباحثة ابدا عن طمانينة التقبل لما يحمله عمله الفني من اشكالات .. وغموض .. وبهاء .. وجمال وصدق .. وفعالية , ويمارس مع صوته الحاد لعبتي : الصمت .. او الغضب فاننا يجب ان نعاين قدرة هذا الفنان على امتلاك فعل المساهمة الواعية في تغيير الواقع وهنا ينبغي لنا كمتلقين ان نتخلى عن فلسفة التقييم التقليدي انسجاما مع موقفنا بحثا عن الأصالة .. وهنا اتسائل : هل لي ان ادخل ضمن المواصفات العميقة لدلالات اعمال (بشير) التشكيلية ..؟ .. ربما .. فلأحاول : احيانا تنداح تلك الشريعة التي تحضر ابدا وتتوزع في كل الأتجاهات .. باحثة في الصميم عن النتيجة التي تجيء على شكل رؤيا تستلهم العين والحواس .. الوجود في لوحة (بشير) ان هو الا شكل هلامي يتحول كيفما اتفق الى مادة تبقى تسيل وتسيل حتى تصير اخيرا (انسانا).


الوجود في لوحة (بشير) مضمون اسير لسؤال كبير عن هذا الانسان بجماله .. برعبه.. بأنكساراته .. بهزائمه .. بانتصاراته الوهمية .. باصراره على ان يحمل والى الابد في داخله لغة الانسان الواحدة .. الخالدة.


هنا .. في لوحة (بشير) تصير الكتلة شيئا يتحرك باتجاه الكل .. وتصير طائرا اسطوريا من نوع خاص .. هنا .. يكرر الانسان نفسه على سطحها الجميل .. الأخاذ .. ويعيد تركيب كل الافراح القديمة .. يستلقي بارهاق على ضفة تريد ان تلتحم بماض معتم .. سحيق .. هنا .. يسترجع هذا عصر الكهرباء والذرة حتى يستطيع بعد ذلك ان يقرر ان العالم ارض واحدة .. ويقين واحد .


وسط هذا الزمن الذي يدفع الانسان لارتياد الفطنة والسؤال الاهم .. وايضا الى ضرورة استشعار الحقيقة التي تشير نحو الاخلاص وتهشيم قالب المستحيل .. تنفجر دقيقة بعد اخرى تلك المحاولات التجديدية الرامزة للبحث والاستطرادات في استقاء المؤثرات الحقيقية التي تخلق في كل وقت وفي كل مكان نوعية هذا الانسان ومحيطه .. والنوازع الاساسية الجادة التي تقدر ان تبث فيه حياة اخرى مناقضة وتغيره من شكل ومن نموذج الى أخر . .


في اعمال (بشير) الاجمالية نكتشف ان التكوين الشامل هو احداث الوحدة والتكامل بين العناصر المختلفة للعمل الفني من خلال عمليات التنظيم ( المنظر) والتحليل والتركيب والحذف والاضافة والتغيير في الاشكال والدرجات اللونية وقيم الضوء والظل والمساحات وما الى ذلك من المكونات .. ويقوم تكرار بشير للاشكال المرئية : مائدة .. كرسي .. انسان .. طفل .. حلم .. طائر .. سماء مفتوحة على شمس لاتغيب خيول مترامية في البعد .. تمثال يتوجع .. زقاق عراقي في حارة ايطالية يسكنها الخوف والدهشة ، على اساس خلق نوع من التعاطف او الترابط العضوي بين مكونات اللوحة من خلال جعل هذه المكونات مجرد صدى لذكريات غابرة .. يجب هنا ان نؤكد ان في اعمال (بشير) تكوينات تحلق بواسطة الخطوط .. وهناك ايضا تكوينات ومساحات داخل فضاء اللوحة الواسع اعتمد فيها على ابداعاته اللونية .. وتقوم هذه التكوينات اساسا على مبدأ التركيز على تدرج النغمات والكثافت اللونية .. ان الشيء الجدير بالتنويه هو انه في عديد من اعماله الفنية تتفاعل الاشكال والالوان والخطوط بعضها مع البعض الآخر في تكوينات فنية متماسكة استطاع الفنان من خلالها ان يؤكد على اهمية اعتماد كل منها على الآخر ..


في العرض الأخير لأعمال هذا الفنان يتوضح لنا انه لا يعمل هكذا دون ضوابط او قوانين .. بل هو يفكر من خلال قواعد واسس تعطي لجملة اعماله الفنية في النهاية صفات التماسك – والاستقرار – والهدوء – والفعالية الايجابية المؤثرة في لوحات (بشير) وضمن هذا الاطار تتحرك الاشياء بتلقائية .. وتنشط في قلب اللوحة كل الفضاءات المشرقة الملونة في اطر شمولية الى النموذج النقي للانسان النموذج ...


من الممكن ان تقدم لنا لوحة ما نزعات انسانية عامة .. ولكن في اعمال (بشير) فان اللوحة عنده لقادرة تماما على ان تأخذنا الى حلم جميل غير مشوش .. وقادرة ايضا على ان تضع امام حواسنا حقائق مذهلة لغرض دفعنا الى ضرورة استيعاب تحرك الانسان المتطور .. والمضطرد باتجاه كل العناصر الازلية الخالدة في الوجود ...




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق