الخميس، 24 ديسمبر 2009

ملكوت الفنان - احمد الحلي






كمثل كل الارتحالات الخرافية الخلاقة , التي تبتغي تحقيق ما لم يكن في الامكان تحقيقه في عالم اليقظة ذي الابعاد المحددة ، يتحتم علينا ان نهيء لعدة غير عادية ، وزادا معرفيا استثنائيا لكي نحظي بالتالي بالبطاقة التي ستخولنا الدخول الى ملكوت الفنان العراقي المغترب بشير مهدي .


أنه يأخذنا في اماكننا ، يؤرجح ذواتنا الى درجة الاهتزاز الفيزيقي المطلوب لكي نحلق معه بعيدا عن كل ما يكدر صفو اللحظة المشتهاة .


انه ينشيء عالما من الالوان والتداخل حيث يكون للضوء وانعكاساته المبهرة الدور الاساسي في صنع التراكيب التكوينية لمكان محدد هو في الاعم الاغلب غرفة ذات سقف عال من الطراز القوطي تطل من علوها على من تحتها من اماكن اخرى ضمن تشكيلة المدينة مثلا انه بالتالي ينشيء عالما ربما ربما فيه للفذلكة الفوتوغرافية البارعة مكان ، انما هو عالم صميمي ينبض بالقوة وبكل مايختلج في بواطن الذات الواعية من اسئلة وترنمات .


هكذا هي مساحات الفنان بشير مهدي اللونية تقودنا عبر موشورها الحياتي المتقن لتعيد لنا تشكيل حلمنا .. انها توحد رؤانا وتسير بها قدما نحو ايقاعها المتجدد .


وعبر هذا المنطق ، تحتاج محاولات الدخول في عوالم بشير مهدي المبهجة حقا الى حشد هائل من الحفريات المعرفية والى الالمام الوافي بالاساطير القروسطية وفروسيات شعراء التربادور هارموني دقيق استطاع فيه الموازنة بين كل معطيات العصر القوطي ومعطيات العصور اللاحقة ولا سيما عصرنا الراهن بما يمر فيه من فلسفات متضاربة وايحاءات رؤيوية افرزتها الكشوفات الفكرية والعلمية ولاسيما في مجالي الفن والتحليل النفسي .


يساورنا الاحساس عبر تأملنا للمنجز الفني للفنان بشير مهدي اننا والزخرفو والمنمنمات والاطر المعمارية والموسيقى ,الشعر ، ناهيك عن الامساك بخيط دقيق من روح الشرق الذي منه انطلق ابداع هذا الفنان .


انه يرتحل بنا عبر ممكنات عصرنا الى لحظته الزمنية المنتقاة بعناية فائقة ، انه الهاجس ذاته الذي قاد شاعرا يونانيا كبيرا كالشاعر كافافيس ( 1863-1933 ) لأن يرتحل عبر صوره الشعرية الموحية الى لحظة زمنية بعينها من عصر غابر كالعصر الأغريقي او الروماني ومحاولة استنطاق هذه اللحظة بكل ما تحمله من وقائع ودقائق مع فارق ان ارتحالات كافافيس تتسلخ كلية عن عصر الشاعر اي ان الشاعر هنا قد قام بعملية تحييد تامة لكل معطيات عصره ، فيما نرى الفنان بشير مهدي عبر مخاضاته وتجلياته قد قام بتشييد معماره الفني الباذخ المستند الى ايقاع بازاء مفارقة مقصودة ، فأيا من هذه اللوحات خالية من الوجود البشري ويكاد هذا الخلو ان يؤسس كيانه للكائن - الأنسان - الرجل او المرأة او الأثنين معا ن ان ثمة حظور طاغ يطفح به المكان لكائن قد غادر للتو او هو في سبيله لأشغال المكان .


ان تنوع اساليب الفنان في التعبير عما يختلج فينا من اسئلة وقدرته على اختزال وترميز اعقد اشكالات الحياة وطرحها من منظور آخر فيه ما فيه من انسجام تكويني قد حقق نقلة نوعية لمدى ما يمكن ان يصل اليه وعينا الباطن من منعطفات مجهولة .


هكذا وبمثل هذه البراعة في التكوين وفي العمل الفلسفي وتجسيد الظلال و الامكنة وعبر كل هذا الزخم من الاساطيرالمدهشة والحكايات ، بكل هذه السطوح الممغنطة بالكبرياء والقوة ، وبتباريج الهموم الكبرى يصنع لنا الفنان بشير مهدي مشاهده المتقنة .


عبر نظرة الى ما يقوم بتأسيسه وارساله هذا الفنان من قيم جمالية ومفردات وما يحاول بثه فينا عبر تقنياته الذكية يتضح لنا انه يؤكد المرة تلو الأخرى ان تحليق الانسان لم يعد حلما . فها هو ذا يزودنا بالاجنحة السرية التي لاتبهظنا كثيرا مثلما تفعل الاساليب التقنية لعصرنا الراهن .


ثمة دلالات فرعية لبعض المفردات تسترعي الانتباه ايضا قام بتوظيفها الفنان بشير مهدي في اعماله مثل تضمين الاعمال للوحات عالمية مشهورة ذات حسية واضحة . ومثل تمثال رأس الفنان بشير مهدي نفسه الذي يبدو بوضع الشاهد الحيادي لما يجري ، او كالأقنعة سواء ماكان منها معلقا على الحائط او ملقى على الفراش ، وفي لوحة ملفتة للنظر نشاهد على الحائط تجسيدا لآدم وحواء بعد ان حل بهما سخط الرب حيث يبدو آدم وقد وضع يده على وجهه الذي بان فيه الانكسار والخزي فيما تبدو حواء وهي تضع القناع على وجهها تسيرالى جنبه برأس مرفوع وكأنها تحاول اخفاء فرحها بما آلت اليه الأمور .
















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق