الخميس، 24 ديسمبر 2009

نظرة في اعمال الفنان العراقي المغترب بشير مهدي - حامد الهيتي




كان من جراء النزعة التسطيحية في الفن ان اصبح للمكان بمعناه الشمولي وبمفهمه الاشتقاقي الرمزي .. واصبحت للعلاقات به قيم مرتبطة بمفاهيم تنعكس عليها ومنها مواقف اجتماعية واضحة ، وحين نتحدث عن الفنان التشكيلي العراقي (بشير مهدي) يمكننا ان نقول : على الفنان ان يبدأ بمحاولاته الجادة والرصينة في التشبث بكل الوسائل التي تؤدي الى عملية الخلق والكمال الفني .. عليه ان يبدأ .. ولكن كيف ؟ ولماذا ؟ تجيب على هذا التساؤل بنفسي واقول : يبدأ لأنه طائر مسكون بهاجس الحرية ، ولنقل عن اعمال الفنان بشير انها محاولة عقلانية في التأصيل ...
وليس تجاوزا للانجاز الابداعي العريض لبشير مهدي عندما اتحدث عن اعماله ... ذلك ان هذه الاعمال فيها من العناصر الابداع والشد مايحوي بامكانية الفكرة المجردة التي تدفع وتحرض على الاكتشاف . وليس غريبا ان تتميز لوحة ما من بين حشد من الاعمال المزدحمة على كل الجدران ( الصديقة ) التي اختارها بشير مهدي .. فقد عبر هذا الفنان في لوحته هذه عن امكانية تحرره من اسلوبيته المعروفة .
في لوحة بشير مهدي الجديدة يترك وظيفته كرسام ليتحول الى منقب اثاري ليكشف لنا عن موجودات تاريخية ... عراقية اصلية ... لقد اهتم بشير هنا بتوازن اللوحة وتناظر كتلتيها : الاولى الأثر الذي يزيح عنه تراب الزمن والثانية التي تمثل عمق اللوحة .
ان قوة الخطاب التشكيلي الذي يعرضه بشير مهدي في اعماله السريالية الشكل والمضمون والتهديف تكمن في ابداع بشير الذي يمضي بخبرته وتجربته نحو تعميق خطاباته التشكيلية في الحياة الثقافية المعاصرة من خلال المحافظة على اسلوبيته متجاوزا بذلك كل الاعتراضات النقدية التي تحاول تهميش هذا التكريس للأسلوب .
اقول : خلافا لباقي الفناني التشكيليين يجد الفنان .. السريالي نفسه في وضع يفتقر الى الحرية المطلقة في تناوله لمواضيعه الفنية المتباينة والمختلفة من ناحية الطرح الموضوعي.. ولهذا يظل ( الخط والكتلة ) يمثلان العنصرين الرئيسيين في البناء التشكيلي لديه .. ونجاح هذا الفنان او اخفاقه في هذا المجال ستقرره في النهاية تلك الطاقة التخيلية والبراعة الفنية اللتان يقدر الفنان ان يجسدهما في عمله النهائي .
يلعب بشير مهدي على التجاذب القديم بين الطرفين فرح كبير عال جدا وألم عظيم .. وضوح ظاهر وغموض معقد .. وكل تطرف يوحد لطرفين حيث التشابك توجد هناك اللحظة التي تفصل بين الفرح والالم تكاد لا تدلك او تلمس .. فجأة .. تنقلب الابتسامات الى جراح .. او يضيء الليل من شدة سواده .
علينا اذن ان نهتم بلوحات بشير مهدي بوصفها جماليات لونية وشكلية وتجانسية وموضوعية وتمتلك استنفاراتها الحلمية الشفيفة وتعبر فن موضوعات حياتية مؤجلة تستطيع ان تمنحها الثقة والطمأنينة والآمان النفسي العارم .
انه يعتني بالعلاقة , تنه نيابة عن عالمه الداخلي ، اعماقه لا شعوره الفردي او لاشعوره الجمعي .. يصنع خطابه , فيتحول الرسم الى مسرح درامي متحرك يعلن عن اشارته ورموزه وبالدرجة الاولى عن تعبيريته فتاريخ الرسم هو التضاد والتوافق بتحولات الافكار والباعث الى مرئيات ، بصريا تشخيصات ، ولغة مزدوجة الوظيفة فالفنان ينتقل في الجحيم - داخل نصه الفني – في اشكالية الوجود في الاغتراب وينقلنا من خراب .. انه يلتقط اصداء التصادم بخيال له مرجعياته ذات الجذر الواقعي شبه المباشر ، كما في الرسم بصورة عامة وليس بصعوبة يعثر الفنان على مفرداته وتحول المرئيات الى شياء وعناصر تشكيلية تبقى ذات صلة قائمة باسبابها :انه يخترع عالما مشتركا ومتدخلا لايخلو من هاجس (الرواية ) ونبضات الشعر ، واصداء الموسيقى لايخلو من البصريات – كعلامات – ومن المعاني كأفكار داخل بنيته التعبيرية .
ثمة فجيعة وأستثناءات تغدو قاعدة في تجاربه التخطيطية .. فهو يرسم انعكاس الواقع –المشهد العريض للطبيعة، والأنسان – في وعيه : يرسم وكأنه يتكلم بصمت الخطاب .
فالفنان لايتذكر الا انه يحدق في المرئيات .. فالأبدية تنبعث بالغة المرارة .. الامر الذي يجعل فنه نقديا ، متمردا، في حواره الآخر (الكون=الطبيعة=الأنسان=الذات) عبر بنية النص الفني لان الفنان لايلتهي ، ولايتنزه ، وكأنه قد تخلى عن المنطق اللذة والمؤانسة الا لذة التقرب من المشهد المر ، الواقع في تجليه المنفي – المقذوف – الشائك ، والرمزي . اننا لسنا امام فن ( القسوة ) كمسرح اللامعقول والمعروف ( او القديم بحسب الموضوع المستعاد ) .
فعالم بشير .. هو بالضبط عالم لوحته المتشابك .. الرصين .. انه عالم فريد من نوعه .. عالم ينمو بصعوبة .. ويتفتت بصعوبة ممزوجة بالحلم والخوف مقتربا من فجر يولد في بذرة خضراء متفتحة لشمس الوجود الساطعة .. وملتصقة بليل اسطوري حالم يسبح في ظلمته الزرقاء طائر غير عادي .. انه طائر الفينيق الأسطوري الذي يضم بين جناحيه سرا لا يعرفه احد غير بشير مهدي نفسه .
مدن قاحلة ، تسكنها الدهشة ... ويسكنها الرمل .. اناس مجهولون قادمون من تواريخ بشرية معزولة يتهامسون فيما بينهم ثم يصمتون منحدرين الى قاع لا قرار له ليسكنوا مدن بشير مهدي في خزف بشير العاشق ويترك قلبه معلقا بين سماواتها الفسيحة وسماوات اخرى رحبة .. هكذا وبلمح البصر يحمل الناس عوالمهم ويقدمونها الى كل غرباء العصر .. ومع ذلك تجيء المدينة بكل عريها وجمالها الطينية الحادة . والهادئة هاربة من نظرات الغرباء .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق